الاثنين، 24 ديسمبر 2018

أتفهم البقر؟

أتفهم البقر؟
مقالة سابقة كتبتها في هذه المدونة العظيمة، فبعثت رابطها إلى من أظنهم سيقرأون ويُفتنون، وكان من بينهم شخص، غفر الله لي يوم أحسنت الظن به، لا يقرأ سوى السطور، أما ما بينها فمتروك عنده.
حادثني بأمر لا أذكره، فليس من الأهمية تذكر لغو الحديث، وبدلًا من الإطالة؛ سألته عن رأيه في المقالة إن كان قرأها، فكان كما ظننت، قرأها فور وصول الرابط إليه، أسعدتني سرعة تجاوبه، لكني حين سألته عن رأيه بدّل سعادتي حزنًا، وقلت في نفسي: "ليتك لم تقرأ".
إن السبيل الذي أسلكه في الكتابة ليس مألوفًا لدى العرب، بل إني -من غير قصد- أتّبع طريقة أجنبية، أو طريقة جديدة ابتدعتها، لا يهم المصدر، المهم أن العوام لا يفقهون كثيرًا مما أقول، وهذا أمر لا يضايقني.
قال لي سالف الذكر: "قرأت مقالتك، ولم أفهم العلاقة بين القصة التي ابتدأت بها والمتن الذي تبعها"، فقلت: "بل هناك ترابط، لكن يطول شرحه، وليس التراسل عبر الهاتف أفضل سبيل له"، وأمّلته أني سأشرح له بالتفصيل، وهذا ما لم ولن يحدث، فالجمال لا يفسّر، إما أن تأخذه كما هو، أو أن تتركه جميعًا لمن يفهمه.
أرأيت لو ألقيت عليك طرفة لا تفهمها؛ ثم شرحتها لك؟ أتراك تضحك كمن لم يحتج لتوضيح؟
يجيبني (البحتري)؛ إذ يقول:
عليّ نحتُ القوافي من مقاطعها     ***     وما عليّ لهم إن لم تفهم البقرُ
يعاني البعض غشاوة تعمي أبصارهم، فيُحرمون بفعلها من جمال لا يخفى على ناظر، وهذه الغشاوة نتيجة ترسّبات اجتمعت بفعل الزمن، ثم بفعل جرائم ارتكبوها بحق أنفسهم، فهم من قاموا بجمع القمامة الأدبية وحجبوا بها أفق الفهم عندهم.
الناس يعلمون أن الجمال لا يُرمى في الشارع، والنفيس محفوظ في أغلى الحافظات، لا يناله كل مريد، ولا تصل إليه كل يد، فمن أراده تعب لأجله، ومن استحقه عرف حلاوته، فاللذة مقرونة بالصعوبة، فكما قال (خالد الفيصل) في صدر بيته الشهير: "يا مدوّر الهيّن ترا الكايد أحلى".
يبحث أحدنا عن سخافات ليقرأها، ثم يضمها للمقروء من، ما سنسميه تجاوزًا، الكتب، تجد مكتبته عامرة لا تكاد تجد فيها فراغًا لتضع فيه ورقة، لكنك حين تتصفح، ما سنسميه تجاوزًا، الكتب؛ قد تضرب رأسك في أقرب حائط، أو تبحث عن صاحب المكتبة العامرة لتضرب رأسه هو.
لعل صاحب المكتبة أراد الوجاهة، ومن هذا الباب فقد اشترى ما لا يصلح ليكون مداسًا يوضع عند باب البيت، والمصيبة أن يقرأ هذه التُرّهات؛ فيظن نفسه قارئًا فذًا.
هذا الفذ حين تهديه كتابًا فإنه لن يفهمه، ولن يدري ما يريد الكاتب إيصاله، وقد يقول: "قرأت مقالتك، ولم أفهم العلاقة بين القصة التي ابتدأت بها والمتن الذي تبعها"، وقد يتهمك، أو يتهم الكاتب المسكين بأنه يغرّد خارج السرب، وأنه ينفخ في قربة مخرومة، أو ينادي لمن لا حياة له، لكن الصحيح أن المسكين يكتب لمن لا يقرأ، ويشرح لمن لا يفهم، ويتعب لمن لا يهتم.
هنا يتدخل (أبو تمام) ليذكرنا بما حصل له مع أحدهم يوم قيل له: "يا أبا تمام، لِمَ تقول ما لا يُفهم؟"، فقال: "لِمَ لا تفهمون ما يُقال؟".
الخلل في عدم الفهم عائد للمتلقي لا المرسل، فهو حين يمسك كتابًا فإنه أعلن استعداده ليفهم ويتقبل ما يقرأ، أو أن يناقش ويبارز الحجة بالحجة، لا أن يكون كمن يحمل أسفارًا..!! هنا أتكلم عن الكتاب الحقيقي، وليس ما أسميناه كذلك تجاوزًا.
أحمل نصيحة بجَمَل، فمن قبلها كسب الجمل بما حمل، ومن رفضها فتعسًا له، أقول: ما دام أحدنا يملك وقتًا يقرأ فيه؛ فليقرأ ما يفيد، وليعمل بما استفاد، وليترك عنه كل مائق، فإنه ساقط في وحل حماقته، منتظر لمن يسقط معه، وأرجو ألا يجد.
سعد المحطب
الكتابة: 20-12-2018
النشر: 24-12-2018

الثلاثاء، 4 ديسمبر 2018

الزرافة الطاهرة


الزرافة الطاهرة

كنت وأقراني في طفولتنا الغرّاء نتسابق في طرح النكات والألغاز التي كنا نحسبها مضحكة أو ذكية، وأستغفر الله من كل سخف نطق به لساني، أذكر منها أننا كنا نسأل: "هل الفهد أسرع أم الزرافة أطول؟"، وليتني أستطيع وصف وجوهنا التي غلبتها ملامح الانتصار، وأعيننا المتزينة بنظرة ماكرة بعد وقوع الآخر في الفخ، كنا لا نسمح له بأي إجابة عدا أن تكون من إحدى الخيارين، أيام رغم محدودية عقولنا بها؛ إلا أنها الأجمل في العمر.

كبرت في العمر كما كبر كل من قبلي، ونمى عقلي كما نمت عقول العظماء قبلي، فاصطدمت بواقع أليم يسمى (جامعة الكويت) التي كادت أن توقف نموه، ولولا فضل الله عليّ ونعمته لكنت كسائر العوام، مررت بأناس ومرّ علي آخرون، حسنهم وقبيحهم، ماكرهم وأخرقهم، ذكرهم وأثناهم، وتصنيفات آخرى لا يسع المجال لذكرها.

من الحمقى الذين عرفتهم، وما عرفت حمقهم إلا بعد معرفتي بهم، أناس دسوا السم في العسل في كثير من أقوالهم، ودعّموا بعض كلامهم بحقّ يُراد به الباطل، وكل ما سعوا إليه يصب في قاع واحد، وما ذاك إلا لخسة في أنفسهم.

في أيام الجامعة تداولنا بعض النكات السخيفة أيضًا، لكنها كانت بمستوى أعلى من الفهم، ولم نكن لنفهمها في الأيام الغرّاء، من بينها نكتة ذُكرت في حضرة أحد الحمقى: "بعض الفتيات يقيمون مشروع إفطار الصائم في الجامعة إجبارًا"، فتساءل الأحمق عن الكيفية، فأجاب صاحب النكتة: "يرتدين الثياب الفاضحة في نهار رمضان، فيفطر من يراهن".

بغض النظر عن البغيض صاحب النكتة غير المضحكة، فإن الأحمق استشاط غضبًا، واحمرّ وجهه الأبيض الناصع، وبدأ بالدفاع المستميت عن (فاعلات الخير)، حتى أن السامع ليحسبه منهن، لكن بإعمال العقل قليلًا سنعلم أنهن من أهل ناصع البياض، ولعله الآن متزوج من إحدى مشرفات مشروع الإفطار الإجباري.

العسل كان (احترام رمضان – توضيح أهمية الستر – إنكار اللباس الفاضح)، أما السمّ الذي دسّه الناصع هو مقارنته بعد تلك النكتة: "أيهما أفضل بنظركم!! متحجبة ترتدي العباءة، لكنها فاسدة أخلاقيًا، أم سافرة ترتدي البنطال الضيق، لكنها محترمة؟"، كانت إجابتي التي لم أعلنها في ذلك النقاش السقيم: "الفهد أسرع، والزرافة أطول".

مقارنتان لا رابط بينهما، فما دخل حشمة اللباس من عدمها بفساد وصلاح الأخلاق؟ المتحجبة امتثلت لأمر ربها بتغطية زينتها، أو جانب رئيسي منها على الأقل، أما السافرة فقد خالفت الأمر الوارد في الآية، ويبقى سبب مخالفتها سرًا بينها وبين خالقها ما لم تعلنه، وحسابها ليس بيد أحدنا.

وكذلك فالممتثلة لآية الحجاب نفذت ما أُمرت به، كارهة أو طائعة، مجبرة أو راضية، ليس لأحد حسابها، ولا ننزه أخلاقها، بل نحسبها طاهرة شريفة، كقرينتها السافرة المسلمة، والله حسيبهما.

الأحمق وأمثاله حين يرون من ينادي بالحجاب يصيحون ويولولون: "أتقصدون أن السافرة عاهرة؟ وأن الشرف حكر على نسائكم؟ ما هذا الدين الذي تدّعونه؟"، ثم بعد عويله ونواحه يبدأ بإعطاء النماذج على نساء قدّمن للبشرية ما قدّمنه رغم عدم ارتدائهن للحجاب، ولا مثال أحب لقلوبهم من (مارغريت تاتشر)، ولست أدري كيف يحتجون بعدم ارتداء كافرة للحجاب..!!

لا أذيع سرًا حين أخبر الحمقى أن السيدة (عائشة بنت أبي بكر) نقلت لنا رُبع العلم الشرعي، كما أقرّ بذلك (الحاكم) في كتابه (المستدرك)، ومما لا يخفى على أحد أن أمّنا (عائشة) لم تكن سافرة بطبيعة الحال، بل إنها كانت حين تدخل بيتها تشد ثيابها حياء من (عمر بن الخطاب)؛ بعد أن دُفن في بيتها بجانب صاحبيه، أيبتغي الأحمق شرفًا أكثر ممن نقلت ربع علوم الشريعة؟

على كلّ، فإن الستر واجب، والطهارة أصل في كل مسلمة، وليست حكرًا لأحد، بل إن سليم الفطرة يرجوها في كل الناس، لا أحد سيسعد بالرذيلة سوى منكوسي الفطرة، أما المسلمة فهي كبحر لا تكدره دلاء عراة الفكر من العلمانيين العرب.

سعد المحطب
4-12-2018

الثلاثاء، 30 أكتوبر 2018

الآكلات بالأعين


الآكلات بالأعين

في قاعة قراءاتنا الإنجليزية في الجامعة قالت لي زميلة: "رأيتك من قبل، هل لك نشاطات؟"، ابتسمت ابتسامة (جوني إنجلش)، ورفعت أحد حاجبيّ قائلًا: "نعم"، وذكرت بعضها، وكان من بينها مناظرة على إحدى القنوات، فقالت: "أجل أجل، تذكرتك".

أخبرتني بعدها أنها عضوة في رابطة الأدباء، زميلة في الجامعة وفي الرابطة، "أهلًا وسهلًا، تشرفّنا"، قلت هذا قبل أن ندخل في نقاش أدبي مطوّل اكتشفت خلاله أن هناك مؤيدون لجانبي في المناظرة أكثر مما ظننت، عادت الزميلة لمنزلها، أما أنا فجلست أتغزل بأمجادي العظيمة، وأندب حظًا تسبب في تأخر تحقيق الشهرة التي سأوصل رسالتي من خلالها.

ثم تذكرت الفتاتين اللتين لا تضيّعان فرصة مروري بالقرب دون أن تأكلني أعينهما، فقلت في نفسي: "لعلهما شاهدتا المناظرة أيضًا، أو أي مقابلة سابقة، أو ربما قرأتا أحد كتبي"، فارتفعت أسهمي بعين نفسي، وزادت الثقة إلى أقصاها، وقلت مسليًا نفسي: "ربما حياؤهما يمنعهما من إبداء الإعجاب لفظًا، فكانت النظرات المتبوعة بالابتسامة رسالتهما.

ثم طرأ بيت الشعر الشهير ببالي:

إذا طلعت شمس النهار فإنها ** أمارة تسليمي عليكم؛ فسلّموا

فعلمت أن الفتاتين تسلمّان عليّ بنظراتهما بدل شمس النهار، فقلت في نفسي: "وعليكما السلام (فانزتيّ) الرائعتين"، طابت نفسي، ورضيت بالجمهور الصامت محترف لغة الأعين.

بعد أيام عدت للكويت، وأهديت رواد الديوانية نسخًا من أحد كتبي، فردّها أحدهم، وعذره أنه لن يقرأه، قلت له: "الهدية لا تُرد"، فقال: "وفّرها لغيري، أنا لا أقرأ"، سكتّ عنه، وندمت لأني أرخصت ثمينًا لمن لا يقدّره أو يستحقه.

عدت لأندب حظي من جديد، من لا أعرفهن يسلمن عليّ بأعينهن، ومن أعرف يرد هديّتي، لم يسلّني إلا يقيني بأنه في يوم من الأيام سيشتري كتبي من هو خير منه، أما هو فلن ينال إهداء واحدًا بعد اليوم؛ ولو أتى معتذرًا.

زميلة أخرى، خير من آكلات البشر بالعين، قالت لي: "كتبك رائعة، لكن ينقصك التسويق الصحيح"، فقلت: "بل ينقصني (التميلح) لدى الفتيات، هذا الفن لا أجيده ولا أحبه".

وكعادتي؛ جلست أفكّر، فخرجت بنتيجة عجيبة للتفكير: أنا لست مشهورًا لسبب كان مجهولًا، أما الآن فهو معلوم، أراد الله لي أن أنضج أدبيًا وسلوكيًا، اليوم أنا حر، أناقش وأقرأ وأقتنع، وأستطيع تغيير قناعاتي بلمح البصر، بل أستطيع نسف كل فكرة اعتنقتها يومًا وأبني غيرها، لا أحد سيلاحظ أو يلوم، فأنا أسير بين عباد الله مجهولًا، وجهلهم بي بات يعجبني.

أعرف أناسًا، ويعرفهم غيري، خلال أقل من خمس سنوات انقلبوا من حال لحال، شكلًا ومضمونًا وأفكارًا وخلقًا ودينًا، لم تثبت فيهم سوى أسمائهم.

لا ألومهم على تبدلهم، بل أشفق لحالهم أمام الناس، فلقد ظهروا بمظهر المتلوّن المتزعزع، من سيقتدي بأفكار شخص يتبدل جلده كل يوم..!! ومن سيحترم آخر يساير القطيع أينما سار..!! قطعًا لا أحد، إلا من داخل القطيع، فأفراد القطعان يعرفون بعضهم، ولا ضير عندهم من اتباع الآخرين.

أن ينجح أحد قبل النضج أمر ليس بالمحمود، بل هو من الخطورة بمكان، إذ سيتخبط كثيرًا، وسيمشي دون هدى، وسيسير -كما يصف الرافعي العقاد- على رجلين من خشب، ومن هذا التخبط أن يفعل الشخص أشياء أخرى تفيده في المجال الذي نجح فيه في البداية ثم ظهر فشله.

الأمثلة مفيدة، لذا فالمثال لهذه الحالة هو ما رأيته من إحداهن، هي تعلم أنها فشلت في مجال يُفترض فيه أن يكون فكريًا، وهو كذلك، لكنها لا تملك من الفكر ما يُظهرها على أقرانها؛ فاتجهت لمجال آخر قد تنجح فيه، وقد فعلت، فبدأت بإظهار شكلها ومفاتنها، حتى صار جمهورها بلا عدد، ثم استغلت تافهته ليغطي فشلها في الجانب الفكري، لكنه في النهاية جمهور مفاتن لا جمهور فكر.

ومثال آخر لمن سأسميه، تجاوزًا، رجلًا، إذ فشل في نفس المشروع الفكري للفتاة سالفة الذكر، فتحول بقدرة قادر إلى ما يشبه (الفاشينيستا)، وقلت (تجاوزًا) لأني لا أرى برجولة من يصنع صنيعة.

صوره باتت في كل مكان، يملؤها بابتسامات التفاؤل الكاذب، والميوعة الحقيقية التي يتمتع بها، فعن طريق الميوعة اجتذب جمهورًا ليسمع منه التفاؤل الكاذب، فيقتنع به ثم يشتري مشروعه الفكري الفاشل.

بعد تفكيري العميق بما سلف، وبالمثالين اللذين نجّاني الله من أكون نسخة ثالثة منهما؛ قررت أن أبقى مجهولًا، واتخذت قرارًا بعدم الموافقة على أي مقابلة تلفزيونية أو إذاعية، وعدم التواجد في معارض الكتاب كما كنت أفعل في السنوات الماضية، وذلك حتى إشعار آخر، حتى أنضج أكثر في قابل الأيام.

سعد المحطب
30-10-2018

الأربعاء، 19 سبتمبر 2018

(البُجّي) الأرستقراطي


(البُجّي) الأرستقراطي

في أيام غابرة مضت، وسنين خداعات انقضت؛ كنت معلمًا في إحدى المدارس، ولكوني حازمًا شديدًا؛ فقد كنت من المفضلين لدى المدير المساعد في الإشراف على الأجنحة، وكان يحب أن يعطيني أصعبها على الإطلاق: جناح الصف العاشر، الطلاب الذي أتوا للتو من المرحلة المتوسطة المليئة باللعب والطفولة والتراخي في النظام.

رأيت طالبًا بقصة شعر مخالفة للنظام، فضلًا عن كونها من خوارم المروءة، ولو كان الأمر بيدي لرددت شهادة كل من يقوم بها ما لم يتب، ويشهد له بالاستقامة أربعة رجال عدول من ذوي (القرعة).

أخرجته من الفصل، وطلبت منه ألا يأتي غدًا إلا وقد أصلح ما أفسده الحلاق، فهز رأسه موافقًا، وفي اليوم التالي أتى دون أن يصلح شيئًا، لأكتشف أن الفساد كان فيه هو، فطردته من الجناح إلى الإدارة، وطلبت من الاختصاصي الاجتماعي أن يتصل بأبيه ليأخذه، فلا مكان في جناحي لهذا الصنف.

وفي اليوم الثالث أعاد الكرّة، لأكتشف أن الخلل ليس في الحلاق، ولا فيه هو لوحده، بل في أهله الذين سمحوا لولدهم المراهق أن يأتي للمدرسة بمنظر غير رجولي.. رغم علمهم بعدم قبول المدرسة بهذا المنظر، فطردته.

أتاني بعد طرده بدقائق شامخًا، رافعًا أنفه ونافخًا صدره، وبيده ورقة صغيرة تسمح له بالدخول، وعليها ختم المدير المساعد الآخر، غير الذي يحب حزمي وشدتي.

أمسكت الورقة، مزقتها، ومريتها أجزاءها الأربعة بالحاوية القريبة مني، ثم طردته، فأتاني بعدها بدقائق بصحبة صاحب الورقة، فأمر بدخوله، ورفضت لأني (مدير الجناح)، كما يسمينا المدير المساعد الأول، فقال: "أنا أعلى منك منصبًا، اترك الإشراف واذهب لقسمك"، ثم وضع يده على ظهري ليدلني على الطريق، دفعت يده، وصرخت في وجهه: "لا تلمس، وتكلم باحترام، والطالب لن يدخل ما دمت في المدرسة".

لحسن حظه فقد مرّ المدير المساعد الأول، محب الحزم والشدة، وسمع الصراخ، فحاول تهدئتي، وقام بحل وسط يرضينا كلينا، طرد الطالب من الجناح إرضاء لي، وأبقاه في (معتقل) المدرسة إرضاء لنظيره.

عدت لمكتبي (في الإشراف وليس القسم)، وكتبت شكوى موجهة لمدير المدرسة، ما أزال محتفظًا بنسخة إلكترونية منها، أهم ما جاء فيها أن المدير المساعد تعمد إهانتي أمام الطالب، وحاول دفعي بقوة لولا أني حذرته، وإن لم يُتّخذ إجراء داخلي لهذا الفعل فإني سأصعد الأمر لمن هو أعلى، وقد تصل للوزير.

لن أقول دقائق، بل هي ثوانٍ، أتاني بعدها المشكي بحقه معتذرًا، ويعد أنه لن يكرر فعلته، فقبلت اعتذاره بشرط ألا يتدخل بعملي ثانية، وهو ما فعله لطيب أصله وحسن أخلاقه، وألتمس له العذر فيما فعله سابقًا.

علو المنصب أمر ليس من الأهمية بشيء، ولا يعطي بحال من الأحوال الحق بإهانة من هم دون ذلك المنصب، ينطبق هذا القول على كل مكان، خاصة في الوظائف الحكومية التي يعلو بها منصب الشخص منا بمجرد مرور الزمن، الأقدم هو الأعلى دائمًا، طبعًا في حال تساوي الشهادات.

في بعض الحالات الشاذة؛ نجد الأعلى منصبًا يقنعون أنفسهم أنهم أعلى في كل شيء، فيحتقرون مرؤوسيهم، ويتعاملون معهم كما يتعامل الأرستقراطي مع فلاحيه، ويتصاغرون أمام رؤسائهم كما يتصاغر (البُجّي) أما (البوليسي)، وهكذا تستمر السلسلة من المرضى والحمقى.

تظهر أخلاق صاحب المنصب حين يتعامل مع مرؤوسيه، ولو تذرّع بأنه حازم وشديد (محاولًا التشبه بي)؛ فإننا نطلب منه أن يتصرف بهذا الحزم مع رؤسائه، وسيظهر كذبه حتمًا، فالبُجّي لا يقوى على عداوة البوليسي، هكذا قضت حكمة الله.

يقول صديقي (فاروق جويدة) في قصيدته المشهور:

اغضب
فإن الله لم يخلق شعوبًا تستكين
اغضب
فإنك إن ركعت اليوم
سوف تظل تركع بعد آلاف السنين

أخطأت كثيرًا في عملي، فمن الذي لا يخطئ؟ لكني لم أقبل لأحد رؤساء الأقسام أو المديرين أن يقللوا من قيمتي، بل كنت أرد عليهم بما يعينني ربي عليه، وأسترد حقي كاملًا إن كان لي حق، وأتنازل إن لم يكن في التنازل ضرر لي، أحافظ على (شعرة معاوية) بيني وبين الأقدم مني في العمل.

يمتلئ حاسوبي الخاص بشكاوى قدمتها ضد زملاء ورؤساء ومديرين، ولي في المحكمة قضيتان حتى الآن، ما دمنا في دولة تحتكم للقانون فإنه حامينا بعد الله من بطش المستبدين، الشكاوى والقضايا سيُفصل في أمرها عاجلًا أو آجلًا، لتطل.. لا بأس، البأس في أن تضيع كرامات الموظفين تحت بند: "أخاف على تقييمي نهاية العام"، أو تحت بند (التعاون)، وأهل ميدان التربية يعلمون مقصدي بهذا البند جيدًا.

اغضب أيها الموظف، وابصق بشكوى رسمية على وجه رئيسك المستبد، فإنه بخنوعك سيستفحل ويستعظم، ولن يتوقف مرضه النفسي عن النمو، ارفع شكواك لمن هو أعلى منه، أوصلها للوزير إن لزم الأمر، ثم ما المانع في أن تصل للمخافر؟ لن يقطع رزقك إلا من رزقك، ما دمت صاحب حق فأنت أقوى من في نظر (البُجّي) من (البوليسي)، وما دام هو مخطئًا فإنه أضعف من أرستقراطي تمرد عليه فلاحوه وأردوه في حقله.

سعد المحطب
19-9-2018

الأحد، 26 أغسطس 2018

اختر حائطًا يناسبك


اختر حائطًا يناسبك

في إحدى الحصص الدراسية التي أحبها جدًا؛ أخبرني أحد الطلاب الذين أحبهم جدًا أنني أحد المعلمين الذين يحبهم جدًا، فقلت له: "حبك ربك، ما طلبك؟"، فمعلوم أن المراهق لا يصرح بحبه -صادقًا أو كاذبًا- إلا ليطلب أمرًا.

ذلك الطالب ظريف جدًا، وأستمتع بالحصة أكثر إن كان حاضرًا، بعد أن قال ما عنده، وطلب ما كان في خاطره؛ أخبرته أني لست مصباح (علاء الدين)، ولست مضطرًا لتلبية طلبه الذي لم يكن بتلك الأهمية، فهددني إن أنا لم ألبّ طلبه فإنه سيغضب مني.

طالب عندي يغضب مني!! وفوق ذلك هو أصغر من أصغر إخوتي!! وقفت عند باب الفصل، وطلبت منه القدوم عندي كي أكلمه خارجًا، وهذا أمر أفعله مع كل طالب أريد محادثته على انفراد، فخرج معي، قلت له: "هل تستطيع إحصاء عدد الحوائط في المدرسة؟"، أجاب مستغربًا: "لو طلبت مني ذلك سأفعل"، فقلت: "افعل، ثم اختر أي حائط تريده لتضرب رأسك فيه".

أنا هنا فوق الكرة الأرضية منذ إحدى وثلاثين سنة، ولا أعلم إن كان قد بقي لي نفس العدد أو أكثر أو أقل، لكنني أعلم أني لن أمضي ذلك العدد المجهول من السنوات المتبقية إرضاء لفلان أو غيره، لدي أمور أكثر أهمية من تقفّي رضا من هبّ ودبّ.

قرأت مرة أنه من أساليب التربية السليمة أن نعوّد أبناءنا على عدم إرضاء الجميع، فمثلًا: حين يطلب طفل لعبة من ألعاب (جمانة)، وهي لا تريد إعطاءه؛ فمن الخطأ أن أجبرها على إعطائه إرضاء له أو لوالديه، فما دامت لا تريد فذاك شأنها، وليعلم من لا يعلم أن من عواقب إجبار الطفل على كسب رضا من حوله إضعاف شخصيته مستقبلًا، ولن يستطيع لاحقًا قول كلمة (لا)، وسيرضى بكل ما يطلب منه ولو لم يعجبه، وسيبتزّه الآخرون بغضبهم منه.

أذكر جيدًا كلمة: (حبًا وكرامة)، تلك التي سمعناها في المسلسلات التاريخية أو الكرتونية في طفولتنا، تلك الكلمة التي تقال إجابة على طلب أو أمر من شخص لآخر، ولو تأملت معناها لوجدته جميلًا: (حبًا) مني لك، ثم (كرامة) لك ولمكانتك عندي فإني سأطيعك وأعطيك ما طلبت، فالمنة للمطلوب وليس للطالب، أما المبتزون فيريدون أن يقلبوا الأمر ويجعلوا الفضل لهم بأن طلبوا ولم يغضبوا من المطلوب.

يبقى سؤال يجهل إجابته جمع من الناس: "لو دعاك شخص إلى مأدبة، فمن صاحب الفضل هنا؟"، برأيي أنه لا فضل لأحد على أحد، فصاحب الدعوة كريم بماله، وملبّي الدعوة كريم بتقديره وبوقته، أما لو أردنا تصغير عقولنا لأن أحد الطرفين طفل بفعله؛ فنقول: "الملبّي للدعوة هو صاحب الفضل، لأنه سيجود بما لا يعوّض ولا يعود، وهو الوقت، أما الداعي فلم يبذل سوى المال، وبدل المال مال آخر، هو من الأشياء سهلة التعويض".

وبناء على ذلك؛ لا يحق لصاحب الدعوة أن يغضب إن لم تُجب دعوته، وللمتخلف العذر دائمًا، خاصة لو لم تكن الدعوة على شرفه، وليس للمدعو أن يجبر نفسه على تلبية دعوة يريدها أو لا يستطيع تلبيتها.. فقط ليرضي أحدًا.

أثبتت الدراسة التي أخرجتها للتو من جيبي أن من أسباب السعادة أن نفعل ما نريد، وأن نرضي أنفسنا أولًا ثم الآخرين، وبطبيعة الحال فإن الأم والأب ليسا من الآخرين، وكذلك أقرباء الدرجة الأولى جميعًا.

وهناك شرط يجب تحقيقه قبل إرضاء أنفسنا رغمًا عن رضا الآخرين، وهو ألا يخالف الدين أولًا، ولا العُرف المقبول ثانيًا، وما سوى ذلك فإننا نقول لمن غضب لراحتنا: "اختر حائطًا لتضرب رأسك فيه".

سعد المحطب
26-8-2018

الجمعة، 8 يونيو 2018

إما شكوى وإما (مواشي)


إما شكوى وإما (مواشي)

في يوم ولادة ابنتي (جمانة) اتصلنا على عيادة طبيب أطفال سمعته تبلغ الآفاق، وأعطونا موعدًا بعد شهر من ذلك اليوم، وحين ذهبنا للموعد جلسنا في قاعة الانتظار أكثر من ساعة.

ذهبت لأكلم موظفة الاستقبال التي استقبلتني كما تستقبل السيدة الأرستقراطية غلامًا فقيرًا يعمل في رعاية غنمها، فطلبت نقودي منها، ثم كتبت ورقة أشتكي فيها لإدارة العيادة من سوء تصرف الموظفة، وغادرت بهدوء، ومررت على محل عصير لأشرب عصير (الرقي) قبل العودة إلى البيت.

لم يمضِ غير نصف يوم على كتابة الشكوى؛ وإذا باتصال من العيادة يعتذرون إلي لأرضى عنهم، قبلت اعتذارهم كرامة لحبيبتي الصغيرة التي أريد الاطمئنان على صحتها، فأمرتهم بتدبير موعد لي بنفس اليوم، ولن أنتظر يومًا واحدًا آخر، بالإضافة لاعتذار الأرستقراطية لي، وللغنم نكاية بكبرها.

ويشبه هذا الموقف موقفًا آخر حصل في مرفق حكومي، أي أني لم آتي لأدفع درهمًا أو دينارًا، بل إن الحكومة تكفلت بإعطاء الأجر للموظفين ليخدموني ويخدموا غيري، دون منّة طبعًا.

كنت في مراجعة حكومية بائسة، انتظرت دوري لأكثر من (45) دقيقة، لم يغظني الانتظار بقدر ما أغاظتني تصرفات الموظفين هناك، فبعد كل معاملة ينجزونها لمراجع تجدهم على وشك التشردق على الكرسي، حتى إنك لتحسب الواحد منهم نفساء..!!

صالة الانتظار مزدحمة، واللطفاء يأخذون استراحة قصيرة بعد كل معاملة، فلما رأيت أحدهم يمسك بعلبة سجائره ويهم بالخروج ليدخن؛ بلغ السيل الزبى عندي، فصعدت لمكتب مسؤولتهم شاكيًا عليهم جميعًا، وخصصت شكوى على ذلك المدخن الذي يؤخر أعمالنا كرامة لسيجارته العفنة.

نزلت من عندها، فإذا كل الموظفين في أماكنهم، وأتاهم المدد بموظف خامس يعينهم، وانتهت معاملتي بعد الشكوى بأقل من (5) دقائق.

أظن، والعلم عند الله، أن سبب تخاذل الموظفين عن تأدية واجباتهم هو أمنهم من العقوبة، يستوي في ذلك موظفو القطاعين، العام والخاص، فكما قيل: "من أمن العقوبة أسا الأدب"، وأي سوء أدب أكبر من تعطيل مصالح الناس..!!

لكن لنكن منصفين؛ فأمن العقوبة ليس سببًا يجعل الموظف يسيء الأدب، فالسبب أكبر من ذلك، واللوم فيه يقع علي وعلى من يتصرف بلباقة لا تمت للباقة بصلة، فمن يتنازل عن حقه في الحصول على خدمة راقية ليس لبقًا، وليس محترمًا أصلًا، بل هو شريك في الفساد.

الأصل في موقف مماثل أن يتصرف أحدنا كما تصرفت مع الأرستقراطية ومع الموظف المدخن، الشكوى دواء الحمقى، ولا شيء سوى الشكوى.

"يردع الله بالسلطان ما لا يردع بالقرآن"، بعض الناس يخافون عقاب المسؤول أكثر من خوفهم عقاب الله، لا بأس؛ لسنا أوصياء عليهم، لكننا أوصياء على مصالحنا، والويل كل الويل لمن يعطلها.

وعلى ذكر الشكوى، ففي الجانب المقابل للشاكي هناك المشتكى عليه، فكيف سيكون حالك حين يُشكى عليك؟ بالنسبة لي أقول دائمًا: "أعلى ما بخيلك اركبه"، هذا في حال كان الشاكي صاحب حق عليّ، وقد يُنظر في مسألته، أما إن كان قليل الأدب والحيلة فأقول له: "أعلى ما ببونيك* اركبه".

وهذا، بطبيعة الحال، ليس أمنًا للعقوبة، ولا إساءة للأدب، فقبل كل شيء هناك مراعاة لله فيما نقوم به في أعمالنا ووظائفنا، ومن أراد منا أكثر من المطلوب فندعه وحصانه وشأنهما.

فعلى سبيل المثال، هل من المعقول أن يأتيني ولي أمر طالب يعاتبني لفصلي ولده (3) أيام بسبب محاولته ضرب زميله بالكرسي على رأسه؟ اشتكيت عليه في المخفر حين تعدى علي لفظًا (ولي الأمر وليس الطالب)، وبفضل الله لم يصدر الحكم حتى اللحظة، وأنا متفائل بأن يصدر قريبًا، فلقد مضت سنة ونصف منذ رفع القضية، وبقي القليل بالتأكيد.

ولسوء حماية الوزارة لموظفيها فإن الأمر تكرر بعد ذلك الموقف بعام واحد، وأيضًا قدّمت بلاغًا في المخفر منذ (6) شهور، وأنا متفائل جدًا أن يصدر الحكم قريبًا، ولا أظنه سيطول أكثر من الأول.

ومن باب الاحتياط، لن أسمح للأمر أن يتكرر؛ ولضمان عدم تكراره فإني حاليًا أملك حزامًا متقدمًا في لعبة (الجيوجتسو اليابانية)، وبدأت في التدرب على الـ (مواي تاي)، وهي باختصار ألعاب قتالية تعطي متقنها القدرة على قتل الخصم إن لزم الأمر، وهذا ما لن أحتاجه طبعًا، سأكتفي بإفقادهم الوعي بضربة (مواشي) على الوجه.

* البوني: حصان صغير يستخدم في تسلية الأطفال.

سعد المحطب
8-6-2018

الجمعة، 16 مارس 2018

أكاديمية (من سبق لبق)


وصلني إعلان دورات تدريبية مكثفة، تحت مسمى: (أكاديمية قلم)، وتعنى هذه الدورات بكل ما يختص بالكتابة، وجميع هذه الدورات مجانية، فلم أجد عذرًا يبيح التأخر بالتسجيل.

فجأة، ودون سابق إنذار؛ بدأت الأكاديمية باستقبال المتقدمين للمقابلة الشخصية، وحدد القائمون عليها معايير لا أعرفها للقبول، واستغربت أنها لم تنطبق عليّ، فهم لم يتصلوا بي لأحضر المقابلة.

ثم بطريقة سحرية لا أعرفها؛ أعلنوا أنه تم قبول 50 شخصًا من أصل أكثر من 300 متقدم، سألتهم عبر حسابهم في (إنستقرام) عن عدم اتصالهم بي لتحديد موعد المقابلة؛ فأخبروني أنهم اتصلوا بالجميع، وادعوا -كاذبين- أنهم اتصلوا بي ولم أجب، وأكرر: كذبوا بادعائهم.

العجب، كل العجب، أنهم أعلنوا أن القبول تم بناء على الأسبقية في الحضور للمقابلة، أسبقية؟ أهذه أكاديمية أم قرقيعان، يحصل فيه أوائل الحضور على الحلويات..؟!

ليتهم قبلوا من قبلوه دون توضيح لجزئية الأسبقية، شفافيتهم الغبية أفقدتهم المصداقية، فلم أعرف في حياتي أمرًا يتم فيه القبول وفق المقابلة الشخصية، ثم يُقبل من حضر أولًا..!! وأعجب من ذلك حين يكذبون بادعائهم أنهم اتصلوا، وهم والله ما اتصلوا..!!

عتبنا الأكبر ليس على هواة يجهلون إدارة الأمور، إنما على وزارة الدولة لشؤون الشباب يوم تبنّت مشروعًا كهذا لا يمت للمهنية بصلة.

هنيئًا للمقبولين، ورجائي للمنظمين بأن يمن الله عليهم بقليل من الاحترافية.

سعد المحطب
16-3-2018

الأربعاء، 21 فبراير 2018

دَرَن المناصب


دَرَن المناصب

قبل عام ميلادي، بالتمام والكمال، ذهبت للمبنى الرئيسي لإحدى الجهات الحكومية لإنجاز معاملة لا تُنجز بيوم واحد، وذلك لأنها تحتاج لتوقيع أحد المسؤولين هناك، ومعلوم أن المسؤولين دائمًا مشغولون في الاجتماع، جزاهم ربي بما هم أهله.

وبعد مراجعات استمرت ثلاثة أيام، بالتمام والكمال، حصلت على التوقيع المبارك من صاحب الأنامل الذهبية، ومضيت في طريقي لأتم ما بقي من تواقيع، وتركت ذلك المسؤول يكمل اجتماعاته مع باقي المسؤولين، جزاهم ربي بما هم أهله.

كتبت بعد ذلك مقالة عالجت بها الأمر من كافة النواحي، وأسميتها: (سيدي الكلب)، ولولا أن نصحني أحد أصدقائي المحامين بعدم نشرها لما توانيت عن النشر ساعة.

ثم مضت شهور، وقدّر الله لي أن أعيد رحلتي إلى ذلك المكان المشؤوم، وذلك لأنجز معاملة لا تُنجز بدقيقتين، لأنها تحتاج لاستلام إحدى الموظفات ورقة مني، ومعلوم أن الموظفات دائمًا لا يُجدن استلام أوراق المراجعين، جزاهن ربي بما هن أهله.

صعدت لمكتب مسؤول هناك، ولولا أني كنت في غمرة غضبي لما سمح لي السكرتير بالدخول، ولأخبرني أن المسؤول في اجتماع، كما هو عُرف المسؤولين دائمًا، جزاهم ربي بما هم أهله.

العجيب في الأمر أن المسؤول كان محترمًا، نعم والله كان كذلك، أقسم أني لا أكذب بحرف واحد، فنقلت له شكواي من الموظفات غير المهنيات، فاتصل مباشرة بمسؤولهن، وطلب منه تأديب موظفاته، وأن يعاملن المراجعين أفضل معاملة، جزانا الله بما هو أهله.

كتبت بعد ذلك عدة تغريدات في موقع (تويتر) امتدحت بها (أبا فلان) لطيب صنيعه، ولم يثنني عن الإسهاب في ذكر محاسنه التي رأيتها شيء، جزاه ربي خيرًا لما فعله معي.

شاء الله لي قبل أيام أن أذهب لنفس المكان، لأنجز معاملة لا يصح أن تستغرق أكثر من 10 ثوانٍ، لأنها تحتاج إلى توقيع ذلك المسؤول المحترم، لكنه كان غير محترم هذه المرة، فأخبرتني السكرتيرة أنه باجتماع، ولا يسمح لأحد بالدخول، انتظرت 10 دقائق، ثم طلبت منها أن تدخل بورقتي وتأتيني بالتوقيع، لكنها خرجت إليّ بالورقة كما هي، من غير توقيع، لأنه رفض توقيعها الآن، ويطلب عودتي في يوم غد، جزاه الله وباقي المسؤولين بما هم أهله.

(أبو فلان) كان طيب الصنيع، حسن الخلق، كريم الفعل، وأشدد وأذكّر بكلمة (كان)، أي أنه فعل ماضٍ، ولا يُرجى أن يكون حاضرًا أو مستقبلًا ما بقي هو في المنصب، فالظاهر أن المنصب يفسد الأخلاق، شأنه شأن صديق السوء.

هناك نوع من العقليات السقيمة، أسميها (عقلية المسؤولين)، وتحتاج لمجلدات لأعطيها حقها من الذم والنقد، ولست هنا بصدد الاسترسال بالحديث عنها، إنما سأتكلم عن بضعة أمور فقط، وقد أفرد كتابًا لتلك العقلية في قابل الأيام.

حين يكون الشخص متلبسًا لشخصية معينة، والتي غالبًا تكون محترمة، ستنتكس سريعًا بعد استلام المنصب، تمامًا كالذي حدث لأخينا المسؤول سالف الذكر، وأكاد أجزم أنه يوم عاملني باحترام كان قد استلم منصبه مؤخرًا، ولم يكن قد تلوث بعد بدَرَن تلك العقلية.

ولا أحسب تلك الأدران تأتي من نفسها، بل إنها تأتي من خلال التراكم شيئًا فشيئًا، إذ حين يجلس مسؤول قديم مع آخر جديد فإنه يبدأ بتعبئة فكره بتلك الأفكار القبيحة، والتي في غالب الظن سيستنكرها الجديد بحكم أنها تنافي الإنسانية، فضلًا عن كونها تنافي النهج الإسلامي في تيسير أمور الناس، إلا أنه بالاستمرار سيتشربها ويقتنع بها، بل ويعتبرها من المسلّمات.

انظروا لو شئتم لأي أحد تظنونه سينال منصبًا قريبًا، واسألوه بعض الأسئلة المتعلقة بالبيروقراطية والفساد الإداري، وستسمعون عجبًا، وستسمعون أعجب من العجب حين ينال المنصب حقًا، إذ سينسخ كل ما قاله سابقًا، ويتذرع بأن المسؤولية صعبة، وتستلزم الشدة والتعنت أحيانًا، جزى الله أصحاب تلك الأفكار بما يستحقون، ولا أحسبهم يستحقون إلا العذاب الأليم بما يذيقونه للمراجعين.

لو كان الأمر بيدي لكان غير الذي هو كائن، إذ سأخضِع كل مرشح لمنصب لدورة مكثفة تنقيه مما يملك من أفكار، وتقيه مما قد يلتصق به لاحقًا ممن سبقوه، حتى يأتي اليوم الذي يصبح هذا المرشح مسؤولًا قديمًا، فيؤثّر بالإيجاب على من سيكون جديدًا، وحينها ستُلغى تلك الدورة، فكما استشرى الفساد في نفوس المسؤولين حاليًا، سيستشري الخير في نفوسهم أخلافهم، وسيقول الناس: "رحم الله سعدًا، وجزاه عنا كل خير لما قام به من تنقية للفساد".

سعد المحطب
19-2-2018

الخميس، 4 يناير 2018

بُكاء يبكي

 وصلني إعلان ورشة أدبية عن كتابة الرواية، قبل شهور وليس الآن، وبحكم اهتمامي بالأمر، بالإضافة إلى تفرغي في اليوم الموعود؛ لم أجد بأسًا من تسجيل اسمي في الورشة.
ذهبت إلى المكان المحدد، وفي الوقت المقرر، وركنت سيارتي في أحد الأماكن المخصصة، ونزلت منها كما ينزل أي شخص من سيارته، ففي النهاية أنا بشر مثلكم، آكل مما تأكلون وأركب كما تركبون، لا يغرنكم صيتي الذائع في بيتنا، ولا شهرتي الواسعة بين خاصتي.
انتهت المحاضِرة من محاضرتها، وفتحت باب الأسئلة والتعليقات للجمهور الذي، أظنه والعلم عند ربي، تجاوز المئة شخص، تبارك الله.
لم أشأ أن أعلق، فرغم وجود أكثر من تعقيب في ذهني إلا أنني فضّلت الصمت؛ كي لا أخسرها كزميلة، فما أكثر الذين خسرتهم، ليتني أخسر (كيلو جرامًا) مع كل شخص أخسره معرفته، سأكون حينها جلدًا على عظم خلال أقل من سنة، ولتذهب الأندية الصحية إلى الجحيم.
سأل أحد الحاضرين سؤالًا أحسبه، والعلم عند ربي، سرقه من ذهني، لا بأس بهذه السرقة ما دامت لا تمس أشياء خاصة بي، كان معنى السؤال: "من أين يأتي الإبداع، أو الأفكار الإبداعية لديكِ؟"، فأجابت دونما تردد: "من الحزن"، ولا أذكر أنها أضافت مصدرًا آخر.
ذاك شأنها، وهي صادقة فيما قالت، وليس لي أو لغيري الحق في تكذيب أو نقد لذلك المصدر، لكن لي ولغيري الحق في التعليق على ما لا نوافق عليه، أليس كذلك؟ بلى، هو كذلك، شاء من شاء، وأبى من أبى.
تابعت حسابها على (تويتر)، ليتوافق وقت متابعتي لها -تقريبًا- مع وقت وضعها لرابط مقالة كتبتها هي مؤخرًا، فدخلت الرابط لأقرأ، فلم أزدد إلا تصديقًا لها، وتأكدت أنها تعني ما قالته سابقًا.
قرأت كمية ضخمة من الحزن، ولو زادت ما كتبته بمقدار فقرتين لمررت بحالة اكتئاب مؤقت مما رأيت، لست أدري ما السبب في حزنها، بل الصحيح أنه لا يعنيني.
وهنا أجدني مضطرًا لأقتبس مقولة (د. بيرتون) لأستاذي، من حيث لا يعلم، (د. غازي القصيبي): "لا يهمني كيف يصنع النجار الطاولة"، وأنا كذلك: "لا يهمني ما يمر به الكاتب كي يكتب"، (د. بيرتون) يهتم برؤية الطاولة جاهزة أمامه، وأنا أهتم برؤية نص أدبي آسر بين يديّ.
حسنًا، لِمَ لست موافقًا على ما قالته الفاضلة بشأن الحزن؟ لأني أرى الحزن يولد الحزن، وأنا أقرأ لأستمتع لا لأبكي، لماذا يصر البعض على نقل مآسيه لغيره؟
تُوفيّ صديق لي قبل بضع سنوات، فكتبت مقالًا أرثيه فيه، وشاء الله قبل أيام أن أقرأه على جمع من الناس في رابطة الأدباء، انتهيت من القراءة؛ فرفعت عينيّ إلى الجمهور؛ فلم أرَ إلا الحزن قد خيّم على المسرح العريض، فقرأت بعد ذلك مقالة كتبتها في لحظة فرح، فانقسم الحضور ما بين باسم وضاحك.
انتِ، يا فاضلة، تملكين حسًا أدبيًا عاليًا، ومهمتك تتجاوز (الفضفضة) لإبكاء الناس، الأديب يرقى بالذائقة، والقارئ يتأثر بكاتبه المفضل، لست أرجو أن نرى ارتباطًا بين الأدب والحزن.
ولأخبركِ سرًا لا يخفى على أحد، صحيح أنه لا سعادة كاملة في الدنيا، لكن الأصح أنه لا حزن دائم أيضًا، والأصل في الأمور هو الفرح، أما الكدر فهو أمر عارض لا يلبث أن يختفي، ألا ترين الناس يُعالجون من الحزن، ولا يشتكون من سعد*؟ فالشكوى تكون من الاستثناءات.
(*لا أقصد أن أستغرب من عدم شكواهم مني، بل أعني السعادة)
وعلى كلّ، أنصح من يقرأ أن يستلهم إبداعه من أمور مفرحة، كأن يحاول استخراج فكرة إبداعية حين أطرأ بباله، أو عند قراءته أحد كتبي، أو لدى سماعه صوتي، أو أي شيء مرتبط بي، ومن لم يجد؛ فعليه بصورتي.
وقبل أن أختم، أقول: أكتب الآن، بينما جميلتي (جمانة) تلهو أمامي ضاحكة، وترسل لي قبلاتها عبر الهواء تارة، وأخرى تحضنني قائلة: "بابا، أحبك"، فأي سعادة تحفز الإبداع أكثر مما أنا فيه؟
سعد المحطب
4-1-2018